علماء المخابرات والدكتور العوضي

تكبير الخط تصغير الخط

 علماء المخابرات والدكتور العوضي

عندما يُدْعَى كاتب أو عالم أو مفكر إلى لقاء في قناة ما ، فإنه قد لا يُعطِي الجواب حقه كما هو المفروض ،وتفوته جملة أو تفصيل كان ينبغي أن يقوله قبل أن تُنقَل فكرتُه عنه نقلا مبتوراً ، وكذلك كاتب المقالة قد يصنع ذلك  ، وقد شاهدناه كثيراً مع علماء وكتاب كثر  ، لا سيما حين يكون المدعو شديد الحماسة ، أو متأثراً بأمر ما ، والكل يعرف ذلك ؛ ولهذا يُنصح الشباب بألَّا تُؤخَذ الأفكار والآراء المؤثرة في الحياة والمجتمع ، كالآراء السياسية ، وكذلك كثير من الفتاوى الشرعية ، عن المقابلات التلفزيونية غير المعدة جيداً ، أو التي لا يكون الضيوف فيها أولي روية ، أو منغمسين في واقع سيء يمنعهم سوؤه من إصابة الفكر السليم .

بمثل هذا الكلام أعتذر للدكتور محمد العوضي عن كلام سمعته منه ، ولولا أن هذا الكلام قيل في قناة تلفزيونية شهيرة وانتشر على وسائل التواصل انتشار النار في الهشيم لما ذكرت أسم الدكتور ولرددت على ما قاله كما أفعل مع مقالات آخرين لم تُعط أقوالهم من الانتشار ما أعطي قول العوضي. 

وذلك أن مقدم البرنامج وجه إليه سؤلاً عن أولئك العلماء الذين يقفون مع الحاكم ولا يرون الثورات ولا يرون الخروج بحجة الحفاظ على دماء المسلمين .

فكان من أوليات عِلم الأجوبة أن يُفصِّل المجيبُ في إجابته ، لأن الإطلاق والتعميم علامة   فساد الجواب عند العقلاء ؛ فقليلة هي الأشياء التي يجيب أهل العلم فيها بالعموم والإطلاق ، لا سيما إذا كانت شائكة وتمس قضية شهدت النفوس عظمتها بما لا مسته من الوبال الذي حل بالأمة ، خاصةً منذ خمسة عشر عاماً ،ولا زال يحل فيها بسبب ما تجره الأفكار المتعجلة الجانية على الأمة جمعاء بما كان منها . 

وقد وددت ألَّا أكتفي بسماع المقطع الذي تحدث فيه الدكتور محمد العوضي هذا الحديث كي أبين للناس وجه التقصير من بعضهم في فهم ما قاله ، إلا أنني تراجعت عن ذلك حينما رأيت الدكتور نفسه رفع هذا المقطع في حسابه ، فرأيت أن إنكار ما ورد من قوله خير من تلمس العذر له . 

فقد أجاب هدنا الله وإياه عن السؤال المتقدم ، بأن هؤلاء علماء استخبارات ولحى وعمائم مؤجرة ، ومرر عدداً من الشتائم بهذا التعميم ، مع أن الشيخ الألباني والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين يقولون بهذه الأقوال التي فجَّر الدكتور العوضي قنبلته هذه في وجهها ، بل إن الشيخ الألباني له رأي أشد ثقلاً على الدكتور وأمثاله من شجب الثورات والخروج على ولي الأمر ، فالألباني رحمه الله يرى وجوب الهجرة على أهل فلسطين لكونهم لا يستطيعون الحفاظ على عقيدتهم في جوار اليهود ، ولأنهم ضعفاء في مقاتلة اليهود ، وقد يؤدي وجودهم في فلسطين مع ماهم فيه من ضعف إلى أمور حدثت مع غيرهم من الشعوب التي احُتلت كشعوب شرقي أوروبا الذين وصل بهم الحال إلى أن لا يعرفوا من كونهم مسلمين إلا أسماءهم الإسلامية وما سوى ذلك فيجهلونه كله ، هذا من يعرف منهم دينه ، وغيرهم لا يعرف حتى ما هو دينه وربما أنكر الدين بالكلية ، وقد ناضل الشيخ رحمه الله في حياته مع رأيه هذا ، وأعتقد أنه توفي  وهو يراه ؛ فهل هو من صناعة الاستخبارات ومن اللحى المزيفه ومن أمثال المستشرقين ؟ 

الجواب : هو : لا ، وهو الجواب الذي أعتقد والله أعلم أن الدكتور العوضي سوف يجيب به لو سئل عن محدث العصر الشيخ ناصر الدين . 

وكذلك الشيخان الأكبران الأجلان الأعظمان الأتقيان الأورعان الأزهدان في حطام الدنيا وزينتها ابن باز وابن عثيمين ، كانا يحرمان الثورات والخروج على أولياء الأمر ، ويريان وجوبَ الطاعة وحرمة المعصية فيما أباح الله ، فهل تنطبق عليهما كل تلك الصفات التي أطلقها الدكتور العوضي على من خالفه فيما ذهب إليه ؟ 

 الجواب فيما أعرفه من رأي الدكتور العوضي : لا وحاشاهما وكلا . 

فإذن نحن بحاجة إلى التفصيل والتشدد في التخصيص والتقييد حين نتحدث في هذا الأمر الخطير . 

ولا أعتقد أن الدكتور  يرى جواز الثورة في الكويت بلدِه ، ولا في قطر التي ينشر من خلالها هذا الرأي ، ونحن لو شئنا لوجدنا في تلك الدولتين من العيوب والأخطاء ما وَجده الثور في تونس ومصر واليمن والسودان  في بلادهم ، فإن قيل : إن الكويت وقطر فيهما من المحاسن الكثير ، فنقول ومن يُعَلِمُ الثائرين الفروق التي يراها الدكتور بين تلك الدول ، فالعاميُّ حين ينفلت لا راد له ولا معلم ، لذلك نقول بما قال به العلماء من تحريم الثورات والخروج على الولاه .  

وقد حرَّم الخروجَ الأئمة الكبار قبل عصرنا ، وحرموه في أحوال قريبة الشبه بأحوال عصرنا ، كالخروج على دولة المماليك ، وهي دولة يحكمها العَبِيد الذين استقدمهم أواخر ُملوك الأيوبيين من وسط وشمالي آسيا ؛ ومن هؤلاء العلماء الشيخ العز بن عبد السلام الذي يُكثِر دعاة الثورات من ذكر قصته مع الملك المظفر قطز ، حين أصر على أن يعرض المماليكُ أنفسهم في المزاد ويدفعون هم لبيت المال أثمانهم حتى تصح بيعتهم ، ومع أن هذه القصة أشد ما تكون دِلالةً على تحريم الخروج عن الطاعة ، فإن العز رحمه الله ناصحهم ولم يخرج عليهم ، بل المروي أنه خرج من عندهم فخرج أهل القاهرة في أثره ، وعند ذلك أطاعه المماليك وعرضوا أنفسهم للمزاد .

ومن يقرأ أحوال المصريين والشاميين إبان الحكم المملوكي يجد أنها أثقل على الإنسان من أحوال المصريين والتونسيين والسودانيين وغيرهم في عصرنا الحاضر . 

 صحيح أن الرجال والنساء في العصر الحاضر وصلوا في العموم في تلك البلاد وفي دول العالم أجمع إلى درك لا يشاركهم فيه جيل سابق من أجيال العالم الإنساني سِمَتُه وخلاصته عدم الحياء ؛ لكن سبب ذلك هو الحرية التي أشاد الدكتور العوضي بها في المقطع حيث تكلم بأن الشخص المسلم يأتي وقد تربى على الحرية فيصدم بالوقوف ضد الثورات فيترك الدين لأجل ذلك ؛ وهذا كلام عجيب يدل على عدم فهم للدين ولا للحرية ولا لفكر الإلحاد ؛ ولا أعني أن الدكتور لا يفهم ذلك بل أعني أن عبارته تدل على ذلك ،لأن الإسلام لا يدعو إلى الحرية ، بل إلى محض العبودية لله تعالى من مبدأ يومه حتى يقوم من النوم مرة أخرى ، ولم يأتِ الناسُ الخلل إلا من الكلام عن الحرية المنضبطة ، وتقديسها حتى صارت المطالبة بحرية الفكر وحرية الكلام وحرية الآراء والمعتقدات أولى في نظر الناس من المطالبة بوسائل عيشهم وأمنهم وتمكين دينهم  ، ولهذا حديث طويل آخر . 

لكن اللافت في كلام الدكتور هو تشبيه هؤلاء العلماء حين يستدلون بالكتاب والسنة بالمستشرقين الذين كما توهم يعرفون من الإسلام أكثر من المسلمين ؛ وهنا نقول : إذا استدلّ العلماء بالكتاب والسنة فانقض كلامهم إن استطعت  بالكتاب والسنة ؛ أما أن تترك ذلك وتلجأ إلى هذا التشبيه الذي لا يروق لمسلم ، فهي طريقة كل من دعا إلى تغيير الأوضاع بالخروج والثورات وإضاعة الأنفس والأموال والأولاد   وترك الدعوة إلى حسن العبادة نسأل الله العافيه . 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.