آخر الأخبار

العلماء والتطبيع
العلماء والتطبيع
التشنيع من بعض الدعاة على علماء الشريعة المعاصرين لأنهم كما يذكرأولئك الدعاة يقولون بجوازالتطبيع مع الكيان الصهيوني ويكيفون هذا التطبيع بأنه صلح أو معاهدة كما كان الصلح والمعاهدة في الأزمان المتقدمة ، وبهذا يكونون خاطئين في هذا التصور ، إذ إن الكيان الصهيوني لا يرى التطبيع حقيقة ولا يرى السلام ،وإنما يرى المخاتلة والمصانعة حتى تحين الفرصة المناسبة ؛ والعلماء وَفقَ قول هؤلاء المشنعين لا يفقهون في السياسة حتى يصلوا لهذه المعرفة ، وشاهدهم على ذلك كلمة يتناقلونها بينهم عن ابن خلدون يذكر فيها جهل العلماء بالسياسة .
وأبدأ أولاً بسؤال هؤلاء الإخوة عن العلماء الذين يقولون بجواز التطبيع الذي هو سلام كامل أو لنقل أخوة كاملة مع الكيان الصهيوني ، من هم ؟ لنجد أنه لا يوجد عندهم أي عالم يقول بذلك ، وعليه نجد أن ذكر العلماء في هذا السياق لا معنى له سوى الإساءة لهم ، وتصغيرهم في نظر أولئك القراء والمستمعين الذين يبجّلون أولئك الدعاة ولا يسألونهم دليلاً عما يقولون .
فالحقيقة أن موقف العلماء من قضية التطبيع موقف مشرف لهم ، يدل على نقاء مشاربهم العلمية ، وفهم الواقع السياسي فهما متجلياً جعلهم يُجمعون أو يكادون أن يجمعوا على إنكار التطبيع بمعنى الولاء والمحبة لليهود واعتبارهم إخوة ، وإنما أجاز من أجاز منهم في أزمان متأخرة في الصراع الصلح المؤقت أو الصلح المطلق مع الصهاينة .
وإذا انطلقنا من جمهورية مصرالعربية ،وهي التي قامت بأقدم معاهدة مع الكيان الصهيوني ، وهي معاهدة كامب ديفيد عام ١٣٩٩ للهجرة ، لم نجد من العلماء فيها الموافقة على التطبيع بالمعنى الذي يريده الصهاينة ،وبالطبع لا أعني بالعلماء كل من لبس جبة أو ظهر في التلفزيون وتَسَمى بالعلم ، بل العلماء معروفون بأسمائهم لدى الجميع .
وبعد معاهدة كامب ديفد وليس قبلها، أفتى شيخ الأزهر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق بجواز الصلح مع الصهاينة إذا ترتب عليه مصلحة محققة للمسلمين ودرء مفسدة عنهم ، وهذا يؤكد موقف العلماء الثابت من التطبيع .
وقد يسأل أحدهم : لماذا جاء ت الفتوى بعد كامب ديفد وليست قبله إذا كان الأمر موقفاً صلباً وصائبا ؟
والجواب : أن كون نظام دولةٍ ما يستشير العلماء قبل أن يُقْدِم على أمر أو لا يستشيرهم ، هو أمر خاص بكل دولة ولا شأن لنا به الآن ؛ لكن العلماء في القضايا العظام لا يفتون إلا عند الحاجة ، فلم تكن الأمة قبل ذلك محتاجة إلى الصلح مع اليهود ، فلما أقدم على ذلك النظام المصري أفتى العلماء بحكم الواقعة ، ولم يبالوا .
وبعد ست عشرة سنة ، أي عام ١٤١٥ للهجرة قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بجواز الصلح مع اليهود سواء أكان مطلقاً أو إلى أمد ، وشدد أن ذلك لا يعني الاعتراف لهم بملكية الأرض الدائمة كما لا يعني محبتهم.
ثم بعد ذلك وفي شعبان ١٤٣٨ للهجرة وافقت منظمة حماس على إقامة دولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧ وهذا بالتأكيد يعني الموافقة على الصلح معهم .
وهذه الموافقة على الصلح مع العدو لا تعني جهلاً بالسياسة كما يتداول هؤلاء الكتبة قول ابن خلدون ؛ فمع فائق تقديرنا لابن خلدون فليس حاكماً على عصره فضلاً عن غيره من الأعصار ، وقد تكلم في مقدمته في كل شيء ، ونازعه غيره في أشياء كثيره لا يرى أن الحق لازمه فيها ، ومع هذا فقد عزا رحمه الله عدم معرفة العلماء في عصره بالسياسة إلى أنهم تعودوا النظر في الأمور الفكرية والذهنية ولا يعرفون سواها ؛ وهذا ما يختلفون فيه عن عصرنا، إذ معلوم أن العصر الذي نحن فيه يختلف كثيراً عن عصر ابن خلدون ، فهو عصر انفتاح معرفي ذهني وفكري واجتماعي وسياسي ؛ فالسياسة لم تعد مخبوءة مثل ذي قبل ؛ وربما كان العلماء من أقدر الناس على فهمها شريطة ألَّا يكونوا منتمين إلى أحزاب ، أو تسيطر عليهم آفكار معينة لا يستطيعون الفكاك منها ، فالعلماء إذا بلغوا هذا المبلغ استطاعوا التفكير في السياسة وإبداء الرأي فيها كما يستطيعون التفكير في كل شي’ سواها .
ثم إذا كان العلماء غير قادرين على التعرف على السياسة كما يقولون ، فكيف لهؤلاء الكتبة أن يتعرضو للسياسة ويتكلموا فيما ليس لهم فيه ، أهم أعلى من العلماء قدراً وإدراكاً ، وإذا كانوا أعلى منهم فما قيمة العلماء ؟!
علماً أن لفظة التطبيع في عصرنا الحاضر ليست موافقة للصواب ، وألفاظٌ مثل الصلح والعهد والموادعة ، وهي الألفاظ التي يختارها العلماء خير من هذه اللفظة التي تعود في اشتقاقها إلى الطبيعة ، والطبيعة هي وجود الخلاف والشقاق بين البشر لاسيما إذا اختلفت دياناتهم ومصالحهم ، وبذلك نعلم فسادها .
أما قولهم :إن الصلح مع اليهود يعني ابتزاز اليهود لنا وتصييرهم إيانا جسوراً لارتكاب ما يرومونه من قتل وتدمير ؛ فلننظر الحرب مع اليهود وإلى ماذا أدت ؟ إلى قتلِ مائة وخمسين ألفا ، وهو الرقم الأقرب إلى الصحة من الرقم الذي يظهر في وسائل الإعلام ، وتدمير جميع القطاع ، وإصابتهم بالجوع والخوف ونقص الأموال وانقطاع الأولاد ؛ وعيش النساء والصبيان والشيوخ في أوضاع مزرية حقاً .
هذا ويجب أن تضيف إلى ذلك اغتصاب النساء ، والحمل جراء هذا الاغتصاب وما ينتج عنه ، وهي أمور لا تذكر في وسائل الإعلام ، إما رعاية لمشاعر الفلسطينيين ، وإما كيد من كيد اليهود أخزاهم الله .
فأي ابتزاز لنا لم يفعله اليهود ؟!
ثم نجد أمثال هؤلاء الكتاب المتحزبين يكتبون عن حرب اليهود ويتهمون العلماء بالجهل بالسياسة ، وهم وحدهم العلماء بها ، يالله العجب .
نعم نقول إن العهد والصلح والموادعة مع اليهود اليوم دون ثمن يُعَد مكافأةً لليهود على أفعالهم القذرة ، لكن أن يكون ذلك في مقابل حل الدولتين ، وتكون الدولة الفلسطينية دولة كاملة كغيرها من الدول ، أمر إيجابي ويجب على جميع العلماء والدعاة إعانة المملكة العربية السعودية عليه ودعمهم لها فيه .
ننتهي من ذلك إلى القول القديم :
ومن نكد الدنيا على الحر أن يري
عدواً له ما من صداقته بدُ
التعليقات